السبت، 30 أبريل 2011

نيران صديقة





لم يكن تاريخ سوريا أبداً إلا معجوناً بالدسائس.. معبق برائحة المكائد.. أحمر بلون الدماء.. فالطريق لحكم دمشق كان دوماً للأقوى.. للأدهى.. للأعنف.. فإذا كان الرئيسين محمد العابد وهاشم الأتاسي قد تقدما باستقالتيهما طوعاً أو كرهاً، فإن باقي رؤساء تاريخ سوريا الحديث كافة سقطوا جراء انقلابات كان مصير الرئيسين شكري القوتلي وأمين حافظ فيها أن قضيا بقية عمرهما خلف القضبان، بينما لقى الرؤساء حسني الزعيم وسامي الحناوي وأديب الشيشكلي حتفهم رمياً بالرصاص .







معلومة جديدة أضيفها لعلك تدرك حينها كيف نسج الأسد خيوط حكمه فوق عرش دمشق لتسع وعشرون عاماً.. والرقم كبير حينما نعلم أن فترات الحكم في سوريا قبل حافظ الأسد كانت تتراوح بين الستة أشهر والثلاث أعوام، وأن هاشم الأتاسي أكثر من حكم سوريا لم تزد فترة حكمه عن سبع سنوات على مدار ثلاث فترات غير متصلة.. والسؤال الأكثر حيرة هو كيف استطاع الأسد أن يسلم سوريا الفائرة لنجله بشار جثة ساكنة هامدة بشعب لا يثور.. شعب لم يثر حتى حينما امتدت أيدي رجال الأسد لتعبث في الدستور السوري لتضييقه قليلاً ليصبح على مقاس نجل الرئيس الذي كان أقل من السن القانوني لتولي الحكم بخمس سنوات كاملة .







لابد أن حافظ الأسد كان الأقوى.. والأدهى.. والأعنف.. حتى استطاع إلجام شعب سوريا لثلاث عقود انتهت بوفاته ثم تسليم العرش لنجله بهذا الهدوء.. واستمر بشار على درب أبيه واستمر الشعب السوري في سكونه.. رغم أرض الجولان المحتلة ورغم القبضة البوليسية التي تزداد ضيقاً على حياة المواطن السوري الذي أخذ أيضاً يفقد صبره تحت وطأة موجة تدهور الأحوال الاقتصادية التي ضربت سوريا كغيرها من الدول العربية.. وجاء منتصف شهر مارس الماضي ليخفي الكثير لبشار ونظامه ولو أن الشارع العربي حينها كان يشغى بحراك شعبي كبير أدى إلى هبوب رياح التغيير من تونس إلى مصر ومنها إلى ليبيا واليمن وسوريا.. وترددت في كل تلك البلدان صرخة واحدة أخذت تتردد من المحيط إلى الخليج.. الشعب يريد إسقاط النظام .







لم أتصور أن يخرج بشار الأسد في خطابه الأول بمجلس الشعب السوري ليعلن تنحيه أو حتى استقالة الحكومة.. ولم أتعجب عندما أطل بقامته الرفيعة ووجهه المتبلد ليبدأ كما بدأ مبارك والقذافي وعبد الله صالح في خطاباتهم الأولى بعد اندلاع الثورة في بلدانهم.. فقد بدأ يتحدث بذات الثقة التي تبلغ حد الفجور عن أجندات خارجية وأيدي خفية وقوى أجنبية كافراً كسابقيه بمفاهيم الإرادة الوطنية والثورة الشعبية.. كافراً بحق شعبه في الثورة على الظلم والاستعباد والفساد.. كافراً بحق شعبه المجلود حتى في الأنين.. لذا كان خطابه الباهت سبباً في اشتداد جذوة الثورة وانتقالها من درعا إلى باقي أنحاء سوريا.. ولم يتعدى رد فعل الأسد أكثر من تعديل أكثر بهتاً لحكومة ناجي العطري ليثبت أنه لا يختلف عن غيره في عدم تصديق أن ما تردده الشعوب "الشعب يريد إسقاط النظام" ليس المقصود منه إسقاط الحكومة بل إسقاط الرئيس ذاته .







كل هذا يمكنني تفهمه فمصر ذاتها جرت فيها الأحداث على نحو كهذا، ولكن أن ينتقل سلاح القمع ضد الشعب السوري من سواعد الشرطة إلى سواعد الجيش.. ومن مدرعات الشرطة إلى دبابات الجيش، فهذا غير مقبول.. والوضع في سوريا يختلف عن ليبيا فجيوش القذافي تذخر بالمرتزقة بينما مازال الجيش السوري سورياً حتى النخاع.. فكيف ليد سورية أن تغتال نفساً سورية كل جريرتها أن صرخت طالبة الحرية.. لن أراهن على الجيش السوري كما راهنا على الجيش المصري فكسبنا الرهان، فلست أعلم إلى أي حد غرقت المؤسسة العسكرية السورية في فساد السياسة و إلى أي درجة تحولت من درع الأمة السورية إلى حرس جمهوري.. ولكن ما يحز في نفسي أن نترك العدو الإسرائيلي يمرح فوق هضبة الجولان بينما نسقط نحن صرعى نيران صديقة .

الثلاثاء، 26 أبريل 2011

وأخيراً.. رئيس سابق !



ما قلته في مقالي الماضي أعيده اليوم..الطغاة لا يستحقون حتى لقب رئيس سابق.. هم بمصائبهم وصلفهم يستكثرون على أنفسهم هذا.. فكيف لطاغية الطغاة أن يحوز هذا اللقب.. مبارك ونجليه قيد التحقيق والاعتقال.. نبأ تأخر كثيراً ولكنه جاء ليعيد الهدوء إلى الشارع المصري من جديد.. جاء ليمتص ما بقي في ناب أفعى الحزب الوطني من سم.. جاء في هذه اللحظة بالذات ليكلل ثورتنا المجيدة بألذ مسك وخير ختام .




اليوم أضع الشماتة جانباً لأمضي معكم في تأملات مشروعة حول ما اعتبر وبحق أولى خطوات مصر على طريق دولة القانون فاليوم فقط يمكن للمصريين أن يفخروا أن لديهم رئيساً سابق، هو الأول بعد قيام النظام الجمهوري وربما الثاني بين كل من حكم مصر منذ عصور الفراعنة وحتى أسرة محمد علي مروراً بدولة الخلافة الإسلامية والأموية والعباسية والفاطمية والطولونية والإخشيدية، فالسبيل إلى عرش مصر لم يكن إلا مفروشاً بالدسائس والاغتيالات والدماء، وناهيك عن وجود هذا الرئيس السابق فالأهم أنه يحاسب الآن على ما اقترفت يداه .




كما يترك المتهم في مسرح الجريمة وراءه ألف خيط ليسقط.. لم يترك لنا مبارك باباً للغفران نفتحه لنسمح له بالرحيل تاركاً مصر وشعبها في سلام.. لم يترك لأحاسيس العطف والتسامح واحترام شيبه أن تتسلل إلى قلوبنا التي اعتادت الصفح.. كان بإمكانه أن يزهد في السلطة منذ أعوام ليقتل في داخله وفي قلب نجله حلم التوريث.. كان بإمكانه أن يقيل حكومة نظيف قبل شهر من ثورة 25 يناير تلبية لمطالب المواطنين.. كان هذا كافياً جداً لأن يستمر الشعب المصري في سباته مستسلماً لواقعه.. ولكنه استمر في طغيانه بكل برود كقوم لوط وثمود.. وإن في ذلك لعبرة لأولي الألباب .




فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصراً.. وكذلك مبارك الذي تجبر وتكبر كعادة الطغاة حتى قال إني ربكم فاعبدون.. ومع سقوطه تكشف كم الفساد الذي غرقت فيه مصر منذ عشرات السنين وبخاصة في السنوات العشر الأخيرة وبالتحديد في حكومتي عاطف عبيد وأحمد نظيف اللتين شكلتا على أساس شللي لا يسمح لمن لا ينتمي لهما بالاستمرار.. لقد ضيقا باب الدخول إلى دائرة السياسة والاقتصاد لأصحاب الذمم الدنيئة ممن لا يعرفون الفرق بين عربة العمل وعربته الخاصة.. الفرق بين محفظته والمال العام.. الفرق بين خدمة أبناء الشعب وخدمة أنجال سيادته.. وغرقت مصر طيلة عصور من الظلام التي كلما طالب فيها المواطن المصري المطحون بحقه قوبل بالدعوة إلى تقليل الخلفة وشد الحزام.




ورغم كل ما يثار من صعوبات تواجه مصر خلال هذه المرحلة شديدة الدقة إلا أني مازلت ضمن فريق المتفائلين بخطوات مصر على طريق دولة القانون وعلى طريق دولة الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية، فالمتحقق فاق كل مأمول ومعبد التوريث انهار أخيراً على من بناه وأشاده، فأكثر السيناريوهات تفاؤلاً كان سيناريو التوريث، حيث لم يدخر نظام مبارك جهداً في وضع مصر وشعبها بين حدين لا ثالث لهما.. حد الاستقرار الذي لا يضمنه سوى نظام مبارك أو نجله، وحد الفوضى الذي صنعوا منه فزاعة مخيفة برائحة إسلامية مقيتة لا تجعل أمام المواطن المصري البسيط سوى خيار وحيد يتمثل في إحناء رأسه للنظام الغاشم والسير بجوار الحائط من أجل لقمة العيش .

الثلاثاء، 12 أبريل 2011

رسالة من تحت الماء


على طريقة زعيم القاعدة أسامة بن لادن جاءت الكلمة الصوتية الأولى للرئيس مبارك أشبه بصيحة ميت من تحت التراب.. أشبه بصدى صوت يتردد من تحت الأنقاض.. أشبه برسالة غريق من تحت الماء.. أشبه بكل محاولات الإنعاش الفاشلة التي يقوم بها النظام وفلوله لطاغية بلغ حالة الـ Flat line وفقاً للتعبير الطبي المعروف.. طاغية مات بالفعل


تألمت كثيراً ! هكذا استهل الرئيس المخلوع كلمته التي تمكنت رغم عدم تجاوزها الست دقائق من أن تقدم دليلاً دامغاً على أن مبارك قد "فيش الهوامش" بالتعبير الدارج الذي لم أجد أدق منه لأصف ما تسلل إلى نفسي من إحساس بأن مصر لن تتمكن مهما بذلت من جهود دبلوماسية وسياسية من إثبات ملكية مبارك وأسرته لأية أصول أو ممتلكات نقدية أو عقارية في أي من دول العالم ناهيك عن استرجاعها، فقد قرر بذات الصلف أن يقاضي كل من طعن في نزاهته وشرفه بدلاً من أن يستغل هذه الفرصة التاريخية لتلميع صورته أمام شعبه والتاريخ إنها فعلاً فرصة تاريخية لم تتسنى لطاغية مخلوع قبله ولكن مبارك أضاعها كعادته، و أنصح المشككون بإعادة قراءة التاريخ ليعلموا مصير الطغاة الذين تناثروا بين من نجوا بجلودهم تاركين وراءهم حتى الثياب ومن لقى حتفه مشنوقاً أو مقتولاً أو منتحراً ثم معلقاً في أحد الميادين.. فالطغاة لا يستحقون حتى لقب رئيس سابق، ومن عجائب ثورتنا أن المسئول الأول عن نكسة مصر الكبرى مازال يتمتع بخدمة فندقية ملكية على أرضها وتحت حماية جيشها، بل ويتمتع بكافة الحقوق التي سلبها شعبه تحت حكم الطوارئ.. المعاملة الكريمة و حق طلب محامي للدفاع وأخيراً فرصة إلقاء كلمة مسجلة لم يستفد منها حتى في تقديم تبريرات واهية لما حدث أو ارتداء ثوب المخدوع فيمن حوله

ولم أتعجب من تمسك الرئيس المخلوع بصلفه وعباراته المتعجرفة، فقد اعتاد أن يخاطب بها شعبه ثلاثين عاماً وأتفهم صعوبة تخلصه منها بسهولة، ولكن ما أثار عجبي وربما حفيظتي أيضاً أن لا يحاول ولو بكلمة واحدة كسب تعاطف جماهير شعبه الغاضبة، بل على العكس من ذلك فقد حرص على شحذ نيران غضبهم واللعب على أوتار الفتنة من جديد بالإصرار على براءته وطهارة ذمته المالية رغم أن عدداً غير قليل من أعضاء حكومته - التي أرغب جدياً في معرفة نص القسم الذي حلفوه - فلة شمعة منورة في سجن مزرعة طرة أو على قوائم ترقب الوصول

ودون النبش في حقيقة نوايا قناة العربية من إذاعة هذه الكلمة الصوتية، فلست ممن يقتنع بسهولة بأن هذا الأمر لم يخرج عن إطار الأغراض الإعلامية البحتة باعتبارها ليست المحرك الوحيد للقناة سعودية التمويل، فرائحة التعاطف الملكي السعودي قد أزكمت أنفي وأنا أستمع إلى كلمات الطاغية المخلوع وهو المنتظر من نظام يتمتع بذات الحدة من السلطوية فهي المحتضنة للعديد من الطغاة وأموالهم كبرويز مشرف وزين العابدين وربما مبارك بعد ذلك، لذا فالأمر يحتاج إلى تحرك دبلوماسي سريع يلتف حول هذه المحاولات الدءوبة لتسهيل هرب مبارك بأمواله من قصاص الثورة العادل الذي امتنع عن طلب رقبة الرئيس المخلوع واكتفى بطلب استعادة أموالنا فحسب

أؤمن أن ليس من السهل لطاغية كمبارك ولا كحزب كالوطني أن يستوعب ويسلم بضياع كل شيء بهذه الصورة، فقد عملوا سابقاً من أجل الالتفاف على الثورة والسعي وراء حلم العودة لتولي مقاليد الأمور، ولكن وبعد أن فقدوا آخر أمل في هذا، لم يدخروا جهداً ولا مالاً في سبيل إضافة الملح على مذاق ثورتنا ليصبح أكثر مرارة في حلوقنا لعلنا نلفظها لنقول : لو يوم من أيامك يا ريس ! إنها محاولة رخيصة خسيسة للشماتة في شعب نفض عن كاهله أغلال القهر.. شعب استكثروا عليه أبسط حقوقه وهو الحرية.. ولذا دعونا نقول لهم : فلتضيفوا الملح كما تشاءون.. فلذة الثورات في مرارتها.. وعائد الثورات لا يكون إلا بمقدار ما بذل من دماء

الاثنين، 4 أبريل 2011

جولة في رأس طاغية


رغم روعة زرقة البحر أمام ناظريه، ولون السماء الساحر في هذا الجو الربيعي الخلاب..لم تستطع قسمات وجهه أن تخفي ما يعتصر قلبه من شعور بالحسرة الممتزجة بالمرارة.. شعور بالأسى المعجون بعدم الرغبة في التصديق.. هكذا كان حال الرئيس المخلوع كما اعتادت الأقلام أن تنعته بعد ليلة الحادي عشر من فبراير.. يمضي طيلة نهاره أمام الشاطئ صامتاً غارقاً في تأملاته وما أن يغمض عينيه ليلاً حتى تبتلعه دوامات من الكوابيس لتقذفه كل صباح على ذات الشاطئ فزعاً


مازال دوي هتافات الجماهير التي أحاطت بقصره المنيف يسكن أذنيه، تلك الهتافات التي لم ينجح أزيز المروحية في أن يخمدها وهي تقله حيث هو الآن.. فبعد أن أدرك الشعب أن جداراً أصماً يفصل الرئيس عن سماع أناتهم وشكواهم قرروا أن يرددوا صيحتهم أسفل نافذته : ارحل.. ذات الصيحة التي انطلقت من ميدان التحرير وحاولت حاشيته أن تقتلها في الحناجر قبل أن تزعج سيادته.. وعندما اضطرت أن توقظه، أصدر أوامره بالإبادة..فلم يكن حينها يعلم أن صورة كوبري قصر النيل التي يبثها وزير إعلامه تخفي جموعاً حاشدة في الميدان.. وأن عشرات المتظاهرين في تقارير وزير داخليته تعني الملايين.. وبهت الذي كفر


منذ خطابه الأخير لم ينطق كلمة واحدة سوى مع سكرتيره الوفي.. لو ربيت كلب ماكانش حيبقى أوفى منك يا زكريا.. هكذا كان يمازحه، فينفجر زكريا ضاحكاً وهو يمضغ التشيكليتس قبل أن يرد.. شلوط سيادتك دفعة للأمام يا ريس.. في آخر مكالمة طمأنه زكريا من فرم كل الأوراق بقصر الرئاسة وطمأنه أكثر من استمرار رجال صفوت في ممارسة اللعب في الظلام لالتهام إنجازات الثورة وإثارة القلاقل في البلاد.. والله وطمر فيك يا صفوت.. كان يعلم كم هو قذر ذلك الصفوت ولكنه مازال يثق في قدرته على فعل ما يشاء وقتما يشاء.. ولكن ما يحير الرئيس المخلوع أنه لم يحس للحظة ورغم كل ما يعيثه رجال صفوت و زكريا من فساد أن غليله قد شفي وأن قلبه قد استراح


كم يعجبه ثبات القذافي حتى الآن وكم حدثته نفسه.. ياريتني صبرت شوية وكان ديتها كام ألف شهيد كمان لعل وعسى.. ولكنه سرعان ما يتذكر رد فعل المشير حال تلقيه الأمر الرئاسي بقصف ميدان التحرير.. كان رفضه قاطعاً قاتلاً لأي أمل في نفس الرئيس من توجيه فوهات الدبابات نحو صدور المعتصمين.. عندها أحس بمرارة الخيانة وإحساس أشد عنفاً بالسخط على السيدة الأولى التي أدرك الآن كم أخطأ يوم سلم لها الدفة منذ أعوام.. لقد نبشت في داخله حتى غرست حلم التوريث.. واستجاب هو بعد أن توقفت من حينها الكوابيس عن مهاجمته كل مساء.. وأخطر هذه الكوابيس كابوس القصاص.. فوق قاعدة تمثال يجثم مكتوف اليدين وعينيه زائغتين من فرط الجموع من حوله، ولكن رحمة الله كانت توقظه قبل أن يرتطم به أول حذاء


كان صعباً على طاغية مثله أن يستوعب شعار "الإرادة الشعبية".. فالطغاة مجبولون على احتقار الشعوب.. خاصة إذا جاءوا محمولون على فوهات المدافع لا على أكتاف الجماهير.. إن حالهم يصبح كمن توقف تماماً عن قراءة الصحف ومشاهدة التلفاز ثم قرأ تقريراً عما يحدث، ليكون هذا التقرير عينه وأذنيه.. هكذا هم الطغاة.. وما بالك إذا كان معد التقرير أكثر حرصاً على عدم إغضاب الرئيس.. لا تزعجوه.. قولوله كل حاجة تمام.. هو حيشيل هم إيه ولا إيه.. وتتكرر الجملة الأخيرة حتى يصل الطاغية لدرجة لا يتحمل فيها أي هم.. كم يعجبه القذافي.. فرغم أن كليهما يحتقر الشعب إلا أنه كان مضطراً - حتى في خطابه الأخير - إلى مخاطبة شعبه "بالإخوة المواطنون" إلا أن القذافي باح بكل شيء منذ الخطاب الأول لينعت شعبه بالجراثيم والجرذان


أحس بالألم و الحزن والقهر والخيانة والذل والفراق والغضب والكره والحقد.. إلا الندم.. إحساس وحيد لم يستشعره أبداً ولم يعتصره رغم كل ذنوبه، فقد كان في نهاية الأمر قائداً عسكرياً.. والعسكري شديد الحرص على لمعان حذائه وتهذيب بزته وتصفيف شعره وبريق النسور فوق كتفيه.. شديد الحساسية لمظهره وصورته ومجده.. كان بإمكانه الرحيل بصورة أفضل منذ اندلاع الثورة.. فلم يكن من الصعب عليه لعب دور الرئيس الذي قرر أن يستريح.. بس أنا انخدعت.. هكذا أقنع نفسه وحاول إقناع من حوله.. وهكذا اقتنع بعض ضعاف النفوس أو من كانوا يدورون في فلكه.. فمازلت أؤمن أن الصاغية تصنعه حاشيته أكثر مما يصنع هو نفسه.. هي من ترفعه إلى مرتبة الآلهة وهي أيضاً من تسقطه فجأة من فوق سبع سماوات على أم رأسه.. فكيف بحاشية تجمع القواد والطبال والأستاذ الجامعي الفاشل والمحامي الفاسد والضابط المرتشي والسياسي المزور


بعد حياة حافلة قضى منها ثلاثة عقود فوق عرش البلاد.. لم يعد يملك سوى تأملاته ومحاولات فاشلة لكتابة مذكراته.. لقد سأم زوجه ونجليه وحتى حفيده.. سأم أمراض الشيخوخة وهذا الورم الخبيث الذي اخترق جسده المسن، رغم طعامه وشرابه الفرنسي وبذله الإيطالية وطبيبه الألماني ودوائر الحراسة المحيطة به، سأم ماضيه وحاضره وتمنى لو كان ما حدث مجرد كابوس حتى وإن كان كابوساً مقيتاً شديد البغض، ولكنه ورغم سخطه من الحياة لم يتمنى الموت.. فآخر ما يتمناه الطغاة الموت.. فهم شديدي الهلع من لحظة الحساب، لحظة يقفون بين يدي ربهم فيعجزون عن النطق.. فهل من مدكر
Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...