لقد أثبتت الصحف القومية بما لا يجعل مجالاً للشك أنها تحتاج دوماً بجانب رئيس التحرير ورئيس مجلس الإدارة والصحفيين وعمال الطباعة.. إلى حاكم تغازله.. هكذا اعتادت في عهد الرئيس السابق مبارك.. كانت تغازله هو وقرينته ونجليه ووزراءه ورجال حزبه.. تفرد صفحتيها الأولى والأخيرة الملونتين لمتابعة جولاته وتصريحاته وحتى قفشاته.. ومقالات الرأي أيضاً كانت تدور حول حكمة الرئيس ورؤيته الثاقبة.. لذا فلم أتعجب من أن تبدأ تلك الصحف بعد سقوط نظام مبارك في أن تتساءل.. لمن الملك اليوم ؟
والمتابع للصحف القومية طوال أسابيع الثورة سيدرك كيف سارت في منحنى يوازي بل يطابق ذاك المنحى المنحدر لنظام مبارك.. ومانشيتاتها خير دليل.. فمتظاهري مصطفى محمود أضعاف متظاهري ميدان التحرير.. وشهداء الميدان قتلى محاولات اقتحام أقسام شرطة.. والرصاصة الحية في العين مجرد رصاص مطاطي لتفريق الجموع.. والجمال في موقعة الجمل تهدف لتنشيط السياحة.. فقد كانت الصحف القومية حينها بحق الأكثر استفزازاً بين كافة وسائل الإعلام العالمية المقروءة والمسموعة والمرئية.. وكأنها لا ترى من الغربال.. وظلت على هذه الحال حتى تأكدت بيقين لا يقبل الشك.. أن جسد النظام قد همد.. وأن روحه قد فاضت.. وأن رجاله قد أصبحوا ضيوف زنازين طرة.. وأن مبارك لم يعد أمامه سوى طريقين لا ثالث لهما.. السجن أو الموت .
وللصحف القومية حساسية تحسد عليها في استشعار الملك عن بعد.. فمغازلتها المؤخرة لجمال نجل الرئيس مبارك كان مبررها تلك الحساسية المفرطة التي كانت وراء تأكدها من أن مؤامرة التوريث قد بدأت خطواتها فعلاً في قصر العروبة.. وأن عام 2011 إذا لم يستهل بتفجر الثورة كان سيختتم بتتويج ولي العهد.. ومن منطلق هذه الحساسية أيضاً أدركت تلك الصحف أن الملك قد غدا في يد المجلس الأعلى للقوات المسلحة.. فلم تدخر جهداً ولا وقتاً في مغازلته.. لتصبح قسوته في مانشيتاتها حزماً.. وبطؤه حنكة.. وتخبطه مناورة.. ولينه رأفة.. ويصبح رفضه أو عجزه عن ضرب النار على المتظاهرين خلال أحداث ثورة 25 يناير ديناً في رقبة المصريين.. يحتاجون لسداده إلى تحمل الحكم العسكري أعواماً وأعواماً بكل ما يفرضه علينا من أحكام عرفية وحظر للتجول وتعطيل للدستور والأحزاب والحياة النيابية.. ديناً يحتاج إلى أن نضفي على بيانات المجلس الأعلى قدسية تدفعنا إلى أن نمسك في ذيله كأمنا ليقودنا حيث يشاء.. تدفعنا للارتماء في أحضانه بحثاً عن الأمن في أيام أصبح قانون البلطجة هو السائد فيها .
لذا يخطأ من يظن أن روح ثورة 25 يناير قد تسللت بعد إلى مقرات الصحف القومية وصفحاتها وأقلام كتابها وأحبار ماكينات طباعاتها.. فروح الثورة لا يمكنها أن تختزل فقط في أن تبدأ تلك الصحف كغيرها في إبراز أخبار الرئيس المخلوع وقرينته في إقامتهما الجبرية الغارقة في الرفاهية.. أو متابعة جلسات التحقيق والمحاكمة لأعوانه فإن هذا لن يغفر لها وقد كانت تصفهم برجال السياسة والاقتصاد الغيورين على وطنهم في وقت كنا نعلم جيداً كيف كانوا لا يعرفون الفرق بين المال العام والخاص.. فلن يغفر ما اقترفوا في حق الوطن وشعبه وشهداءه إلا أن يعودوا ليتعلموا من جديد كيف تكون حرفية الخبر وموضوعية التناول واستقلالية الفكر.. تلك الحرفية والموضوعية والاستقلالية الذين عطلوا تماماً داخل مؤسسات الصحف القومية طيلة عقود.. تحولت فيها إلى صحف للحزب الوطني المنحل لأسباب ربما تعود إلى اعتمادها على التمويل من حكومة الحزب أو هيمنة سقط المتاع من صحفيي الحزب على رؤوس تلك الصحف .