الأربعاء، 21 نوفمبر 2007

ألم .. و أمل


عندما إحتقنت لوزتاه

إستشار الطبيب

و في غرف العمليات

لم يصطحب أحدا

غير خف

و أنبوبة لقياس الحرارة

فجأة .. مات

لم يحتمل قلبه سريان المخدر

و انسحبت من على وجهه سنوات العذابات

عاد كما كان طفلا

يشاركني في سريري

و في كسرة الخبز و التبغ

و لكنه لا يشاركني في المرارة


مكث لحظات وهو يتأمل وجه زوجته النائمة بعينين حانيتين بعد أن تأكد من إتمام إسدال الغطاء فوق جسدها النحيل الذي ما عاد يحتمل نزلة حمى من تلك التي عبقت الأجواء في تلك الأيام الباردة المطيرة من شهر شباط ( فبراير ) .. يال تلك البائسة التي ما عرفها إلا راهبة زاهدة في شتى متع الحياة ، تستمد سعادتها من انفراجة ابتسامته وتتحمل الكثير في سبيل خروجه من متاعبه .. هاهي الآن ترقد أمام ناظريه .. جسدا بلا روح .. هيكلا باليا بوجه شاحب و أطراف باردة .. وهو يقف مكتوف الأيدي لا يملك أن يفعل لها أي شيء ، انبعثت أنفاسه حارة تكشف ما يختلج في صدره قبل أن يعود بخطوات هادئة كيلا يزعجها ، إلى باب الغرفة الذي انسل من خلاله بهدوء .
في غرفة المعيشة .. ألقى بنفسه على أريكة.. أشعل سيجارة.. وأخذ ينفثها بتلذذ ونفسه تهدأ قليلا من البرودة التي اندحرت فلولها أمام طلائع الحرارة المنبعثة من ألسنة نيران المدفأة المتقدة.. امتدت يده إلى التلفاز أمامه ليفتحه.. وأخذ يتابع دون شغف حلقة مملة من مسلسل تلفزيوني قبل أن يقطع المسلسل بفاصل إعلاني.. تتابعت العروض الإعلانية حتى كان إحداها.. بدأ جسده يعتدل بعد إتكاء.. وتسمر وجهه الذي بدأت اختلاجات و انفعالات ترسم خطوطها على صفحته ... مستشفى السرطان للأطفال .. 57357 .. إتبنت بجهودكم .. اغرورقت عيناه بالدموع وأخذ فلبه ينبض بعنف فرغم زمن الإعلان الذي لا يتعدى الدقيقة الواحدة ، إلا أنه صنع به مالم تصنعه السنوات ، عاد بجسده إلى الأريكة، وبرأسه إلى مسندها ، وبعقله وفكره إلى الوراء أعواما .. أغمض عينيه.. ومضى ينبش في صفحات الماضي القريب.. لتطل صورة ملاك طاهر نقي يحلق بجناحين بيضاوين.. نعم .. وتتضح صورة الملاك ليبصر فيه ابنته.. نعم.. ابنته.. إسراء .. ذلك الطيف الذي أسرى في حياته كومض البرق.. مر بهدوء ودعة.. حتى وكأنه كان حلما جميلا من أحلام اليقظة.
سرعان ما مضت حياته أمام عينيه بكل تفاصيلها كشريط سينمائي قصير.. نعم قصير.. فلم يكن عمر إسراء حين حلقت روحها نحو بارئها ليزيد عن العشرة أعوام . يوم أن ولدت كان كأنه ولد من جديد.. كان يقفز من الفرحة يوم زفت له الحكيمة النبأ، كما لم يفرح من فبل.. وحطت إسراء في حياته بهدوء.. وأصبحت شاغله الوحيد.. فرغم نجاحه في عمله وتمكنه بجهد مضني.. أن يؤسس شركة سرعان ما نمت حتى أصبح من كبار رجال الأعمال في بلاده.. وعاش مسخرا كل ما له لإسعاد إسراء.. التي لم تكن أمها بأقل سعادة بها منه.. فلم تكن تنام أو يطيب لها مقام إلا وبجوارها ذلك الملاك الطاهر النقي . يوم نطقت بأحرف مبهمة اختلطت بأصوات بكاءها الشجي .. أحرف ما لبثت أن تلاحمت لتترجم .. بابا .. لم يتمالك نفسه فاحتضنها بقوة .. وهو يغرقها بقبلاته حنانا.. لقد شكلت جزءا هاما من حياته ، بل حياته كلها خاصة وأنها جاءت بعد صبر دام خمسة أعوام قضاها وزوجته دون أطفال ثم جاءت تلك الهدية الربانية .. إسراء .. لتضفي على حياتهما مذاقا خاصا .. يوم أن التحقت بالمدرسة في يومها الأول عز على أمها فراقها حتى لبضع ساعات في اليوم فنذرت على نفسها إيصالها إلى المدرسة وإعادتها كل يوم حرصا بل خوفا عليها من حافلة المدرسة والزملاء والناس ، بل والهواء ذاته ، ويوم سقطت سنتها اللبنية جاءته صارخة فأخذها بين ذراعيه وهو يلقي بالسنة الساقطة تحت أشعة الشمس وهما يرددان معا .. يا شمس يا شموسة خذي سنة الجاموسة وحاتي سنة العروسة .. ودار بها وقد بعثت هذه الكلمات بأمل أن يراها وهي عروس في فستان زفافها الأبيض النقي كقلبها الطاهر .. ذكريات مرت سريعا لتقف عند النقطة التي غيرت كل شيء.. نعم كل شيء .
يوم احتقنت لوزتاها ظنها نزلة عارضة فلم يعر لذلك بالا ولكنه بعد يومين وبعد جهود مضنية من الرعاية لم يحتمل قلبه رؤيا فلذة كبده في هذه الحال فهرع بها إلى كبرى الأطباء الذين أخضعوها لسلسلة من الفحوص الطبية وجاءت نتيجة الفحوص والأشعة.. كان واقفا في دهاليز المستشفى وهو يرقب خطوات الطبيب المختص من بعيد .. اهتز فلبه وانتفض وهو يتأمل صفحة وجه الطبيب محاولا عبثا أن يترجم شيئا أو أن يفهم أي شيء ولكنه كان ككل الأطباء ذا وجه بلا تضاريس .. كان وجهه جامدا رائقا .. وهو يلقي عليه النبأ المفاجأة والصدمة المفجعة التي هوت على أم رأسه كالصاعقة .. فلم يتمالك نفسه .. وهو يسمع من الطبيب تشخيص ابنته .. إن الفحوص قد كشفت وجود ورم سرطاني خبيث .. بدءا من ساعتها رحلتهما الشاقة مع ابنتهما العليلة التي استوطن السرطان جسدها الغض وبدا يصول ويجول ينهش في جسده بلا رحمة .. لم يرد الله أن يعذبها كثيرا .. فصعدت روحها بهدوء كما خرجت إسراء إلى العالم وعاشت فيه بهدوء.. استسلمت أمها لقضاء ربها ولكنها عاشت فريسة الحزن وارتمى أباها وسط عباب شركاته لعله ينسى ما كان من أمر ابنته .
انتفض جسده فجأة وقد استشعر لسعة السيجارة لأصابعه – بعد أن نسيها في غمرة تأملاته – وأعتدل وهو يكفكف دمعه بيديه.. لقد ضاعت إسراء.. ضاع جوهر حياته و إكسير سعادته.. ضاعت إسراء.. اقتنصها ذلك المرض اللعين من أحضان أمها.. فتبخرت معها كل الأحلام و الآمال والأماني .. آآآه يا قلبي المحترق.. تأمل التلفاز.. كان الإعلان الذي هيج الذكرى و أيقظ المآسي قد بات يلفظ أنفاسه الأخيرة.. إتبرع ولو بجنيه .. إتبرع باللي تقدر عليه .. مستشفى السرطان 57357 إتبنت بجهودكم .. وناقصها الأجهزة والمعدات .. رقم حساب التبرعات 57357 في البنوك التالية : البنك الوطني في مصر بـ (SWIFT. Code) : NBEGEX001 و بنك مصر BMIXEGCX140 ، وبنك الإسكندرية ALEXEGCXXXX ، وبنك القاهرة BCAIEGCXXXX ، والبنك البريطاني EBBKEGCX .. لأي استفسار اتصل على الأرقام التالية : 19057 من داخل مصر ، ومن خارجها على رقم +(202)3312737 ... ساعتها فقط ألح نداء غامض قادم من أعماق خواطره .. نداء خالص أخذ يلح عليه ويطرق مسامعه.. نداء كان يأتيه بصوت يعرفه جيدا ويدرك تردداته.. صوت قد اشتاق إلى سماعه وهو يغرد .. بابا بابا.. إنها ابنته ثانية .. إسراء.. ولكن هذه المرة لم يكن نداء حزن وهم .. بل نداء أمل ورجاء .. و رفع سماعة الهاتف مخاطبا سكرتيره الخاص بكلمات ثابتة لن تعرف التردد : ألو .. أشرف .. خد الرقم ده ، بكره الصبح تتصل بيهم وتشوف الأجهزة حتتكلف كام و تديهم شيك بالمبلغ .. فين .. مستشفى السرطان للأطفال يا أشرف، عرفني بالتطورات فورا ... وألقى بالهاتف وهو يطير إلى زوجته .. فلقد عرف الآن كيف يرتاح قلبه وتهدأ جوانحه .. لقد أبصر أخيرا في النفق المظلم بصيصا من النور .. هو خافت حقا .. ولكنه كافيا ليتلمس نهاية الطريق .. عرف أخيرا كيف يكون فردا إيجابيا .. إن كانت إسراء قد ماتت .. فليمسح الحزن والألم عن أقرانها .. أطفال بلاده .. ومضى يطلق صيحته تتردد في أرجاء المنزل .. إن كانت إسراء قد ماتت فلن أسمح بإسراء أخرى .
هذه القصة صرخة في ضمائر رجال اعمال مصر
الذين وقفوا موقف المتفرج من هذه المستشفى
التي ظلت البلاد و على مدى عشر سنوات تتسول لها المال بالجنيه
إتبرع و لو بجنيه .. إتبرع باللي تقدر عليه

هناك تعليقان (2):

  1. القصة دي حصلت بفضل الله على المركز الثاني في مسابقة مستشفى السرطان في اطار اليوم التضامني مع مرضى السرطان تحت رعاية جامعة المستقبل لعام 2007 م

    ردحذف
  2. جميله القصه برغم ان احنابقينا عاوزين اللى يتبرعلنا
    هههههههههه
    جميله المدونه
    ودايما للاحسن
    تحياتى
    علاء

    ردحذف

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...