الجمعة، 20 يونيو 2008

يعني إيه للحمة؟؟؟؟؟


عاد الفتى برأسه إلى الوراء قليلا حيث صدر جده ، ليرتمي بين ذارعيه أكثر و أكثر . ثم أغمض عينيه في خدر لذيذ و قد إجتاحته نشوة عارمة من الحنان أخذت تتزايد مع إستمرار يد الجد في طريقها بين خصلات شعر الفتى الناعمة . كان الجد يتحسس رأس الفتى الراقد على صدره ، و هو يمضي في حديثه الشائق الذي كان يبدو أنه يستهوي الفتى الذي غرق بين أحضان جده في بحر من الخيال عجيب . فقد كانت حكايا الكهل العجوز الذي غزا الشيب رأسه ، و حفر الزمان في وجهه أخاديدا ، كانت مصدر التسلية الوحيد لهذا الفتى في تلك المدينة الخاوية .. مدينة القاهرة .. نعم .. فقد كان الجد مستندا على جذع شجرة من أشجار الفيكس .. شجرة عجوز مثله .. في شارع عدلي .. الذي كان قد بدا خاليا من أي من المارة رغم أن الساعة لم تكن قد أعلنت بعد انتصاف الظهيرة.
كانت حكايا الشيخ تنقل الفتى في رحلة عجيبة في ذات المدينة التي يقطنون بها اليوم .. مدينة القاهرة .. ولكن كانت أحداث حكايا الشيخ تدور في زمن غير ما يعيشون اليوم .. زمن ربما يعود إلى ما يتجاوز الخمسين عاما بقليل .. فنصف قرن كاملة كانت تفصل زمان الحكايا عن الواقع الذي يعيشون .. وهل تعد النصف قرن زمنا على مقياس التاريخ ؟
كلا .. ولكن ما طرأ على المدينة يشي بأن النصف قرن فعل بها ما يحتاج الزمان فيه إلى 100 عام .. فالنصف قرن غدت تفصل بين نقطتين شددي التطرف .. فلم تكن المدينة بأي حال من الأحوال قبل تلك الخمسين عاما كما هي اليوم فالمدينة اليوم .. خاوية .. جرداء .. محطمة .. هادئة هدوء الموت.
- و كان أبويا إللي هو جد أبوك يا واد .. كل أربع يجيبلنا نص كيلو لحمة
فتح الفتى عينيه ، و إنتبهت حواسه ، وفغر فاه واعتلته الدهشة مما سمع .. وقال بصيغة الاستنكار مستفهما مرددا كلمة واحدة مما قال جده:
- للحمة ؟؟؟؟!!!!
قالها ثم عاد إلى حيث كان .. مغمضا عينيه.. مستسلما لهذا الخدر اللذيذ الذي بدأ يجتاحه وهو بين ذراعي جده .. و لكنه الآن قد بدا مشغول البال بما سمع من كلمة جديدة تطرق سمعه لأول مرة .. فجال في بحور من الخيال يحاول فيها أن يشكل صورة في ذهنه لما سمع .. للحمة .. فكيف تكون هذه اللحمة .. ماشكلها .. ما لونها .. عرف من جده أنها ضرب من ضروب الطعام .. فكيف هو طعمها .. وكيف كان أجداده الذين أكلوا اللحمة .. هل كان لهم من القوة و الضخامة و حدة القواطع و الضروس ما يمكنهم من تناول ما يسمى باللحمة .. فأهل الفتى من قاطني تلك المدينة اليوم يقتاتون النباتات ولا يسد ظمأهم إلا الماء . ليس هذا سوى بعض من كثير مما حوته حكايا جده الشيخ من أعاجيب و أساطير لم يكن خيال الفتى الغض بقادر على إستيعابها.
فجده يطلق على هذه الهياكل البالية الصدأة التي غاضت حتى نصفها في التراب .. يطلق عليها إسم العربات .. وتزعم حكايا جده أن تلك الهياكل البالية كانت وسائط تربط الأمم و الشعوب .. وسائط تنقل كل شيء من البضائع إلى الأخبار مرورا بالبشر أنفسهم .. و يتحدث جده عن أزمة وقود حدثت ربما كان هذا عام 2008 م .. فجده لا يتذكر تماما متى حدث هذا .. كل ما يتذكره أن هذه الأزمة الطاحنة قد إرتفع معها أسعار الوقود تلتها حالة من جفاف منابع هذا المسمى بالوقود .. رغم أننا كنا كما يزعم الشيخ نصدره للخارج .. إلى دولة من دول الجوار كانت تدعى إسرائيل ، وبأقل من ربع الثمن .. يقسم الشيخ أن أزمة الوقود ومع تفاقمها وتصاعدها توقفت العربات الواحدة تلو الأخرى ، كل في مكانها .. حتى أصبحت على هذه الحال .. هياكل بالية صدأة قد غاضت حتى نصفها في التراب . وعاد أهالي مدينة القاهرة إلى إمتطاء البغال التي يراها الفتى اليوم.
فالمدينة كما تبدو اليوم وليدة حالة من الصراع المرير .. صراع كذلك الذي نظر له رائد فكر العقد الإجتماعي المفكر الإنجليزي جون لوك .. صراع الخير و الشر .. فقد تمكن مرض خطير من جسد المدينة المنهك .. مرض الفاقة ..نعم الفاقة .. فهي المسؤول الأول عن خلو هذه المدينة من تلك الجموع الغفيرة التي كانت تتكدس في منازلها و مصانعها و مزارعها و ما يدعوها جده أتوبيساتها .. حتى أن تلك الجموع كانت تسبب حينها أزمة أخرى كانوا يدعونها بالإنفجار السكاني . تمكنت الفاقة من جسد المدينة المنهك كما ذكر الشيخ فأحلتها مدينة من الخواء .. لايسمع فيها صوت صريخ إبن يومين ، هكذا بالتحديد قال جده.
فتحت ضغوط الفاقة و في سبيل للقمة العيش .. فقد الموظف حياته وسط زحام فرن عيش بلدي على يد صاحب الفرن .. فقدها دون 10 أرغفة بنصف جنيه .. هكذا كانوا يطلقون على العملة الورقية حينها .. وفقد السائق حياته على يد سائق آخر في خلاف حول دور كل منهما في حمولة الركاب .. وسقط الشباب صرعى عراك حول مادة مخدرة و آخرون كانوا وليمة شهية للأسماك أثناء هجرة غير شرعية .. فقدت البنت حياتها منتحرة في سبيل حبيبب لا يستحق .. فقدت الزوجة حياتها على يد زوج مخدوع إكتشف خيانتها .. و دفن المئات و المئات تحت أنقاض عمارة مغشوشة البناء أو عبارة تحمل إسم السلام دون أن تحوي شيئا إحتياطات السلامة و الأمان أو طائرة أغفل العمال صيانتها وربما قطاران إصطدما أثناء نوم عامل تحويلة .. وسقط آخرون و آخرون من أجل للقمة العيش .. فتشظى سكان المدينة بين قتلى لا يعلمون لماذا قتلوا ، و بين قتلة يدفعون الثمن عما إقترفوا إعداما .. و أخيرا يا ولدي .. هكذا قال الشيخ و قد تغيرت نبرات صوته فشابتها حشرجة بكاء تسللت رويدا رويدا إلى الفتى الغارق حتى أذنيه في بحور من الخيال بين ذراعي جده الشيخ .. فقد قال جده بحروف مهتزة .. أن آخر قتلى الفاقة في تلك المدينة كانوا أطفالا .. أطفالا أزهقت أرواحهم بيد والدهم البائس .. لم يجد ما يسد به صراخ جوعهم إلا يد مهتزة إمتدت في لحظة جنون يائس لتكتم أنفاسهم.

الأحد، 8 يونيو 2008

نكبة أم نكسة .. أم شيء آخر


إني لا أشفق علينا .. فقد عشنا ما يكفي وسط النيران ، في زنزانة عفنة مظلمة معتمة
و لكن أشفق على من سيولد في هذه الزنزانة .. دون ماضي و لا مستقبل





أخترت هذه الكلمات لتكون خاتمة المقالة .. ومن الخاتمة .. أستهل مقالتي ، على غير عادتي .. لأغدو كمن ينظر إلى العالم من حوله وهو واقف على قدميه .. لعلي أرى الصورة أزهى .. أو أبصر الأوضاع و أنا على رأسي ، معتدلة و مستقيمة ، مادمت أراها و أنا على قدمي مقلوبة و معوجة .. أو هكذا خيل إلي

سحقا للتاريخ سحقا .. وقد أحلنا التاريخ محرابا نتصوف به هربا من حاضرنا الذي نرفضه .. وقد جعلناه غارا في قلب الجبل نلوذ به من كل ما نعانيه .. فحياتنا عبارة عن مجموعة من الذكريات .. في كل يوم ذكرى .. نجدها إما محفورة في الذاكرة ، أو أننا نستلهمها من أسفل قصاصات نتيجة العام .. أو من بين شفتي مذيع برنامج حدث في مثل هذا اليوم .. سيان .. نلتقط الذكرى ثم نهرب معها إلى حيث نبكي إن كانت الذكرى مأساة ، أو نضحك إن كانت ملهاة

و اليوم نعيش ذكرى مؤلمة .. ذكرى تنحي الزعيم الخالد جمال عبد الناصر .. 9 يونيو .. 9 يونيو 1976 م .. عندما قال عبد الناصر جملته الشهيرة :

نصل الآن إلى نقطة هامة في هذه المكاشفة ، بسؤال أنفسنا .. هل معنى ذلك أننا لا نتحمل مسؤولية في تبعات هذه النكسة ، و أقول لكم بصدق و برغم أية عوامل قد أكون بنيت عليها موقفي في الأزمة .. فإنني على إستعداد لتحمل المسؤلية كلها .. و لقد إتخذت قرارا أريدكم جميعا أن تساعدوني عليه .. لقد قررت أن أاتنحى تماما و نهائيا عن أي منصب رسمي و أي دور سياسي .. لأعود إلى صفوف الجماهير


كان هذا الخطاب أول إعلان رسمي لنتائج أقسى الهزائم التي منيت بها مصر و الأمة العربية كلها في التاريخ الحديث و المعاصر بعد إحتلال فلسطين 1948م أو ما اتفق على تسميتها بنكبة 48 .. إنها و بإختصار هزيمة يونيو1967 م أو ما اتفق على تسميتها بنكسة 67 . خيانة أم تهور أو قصر نظر أم فساد أم ثقة مفرطة .. سيان أيضا . فمهما كانت الأسباب التي أدت الى تلك النكسة فالمهم أننا هزمنا و سقطنا في بحر من الظلمات عميق .. يغشاه موج في فوقه موج من فوقه سحاب .. ظلمات بعضها فوق بعض .. فما زلنا و للأسف و مع إحترامي و تقديري لمن يخالفني الرأي من المؤرخين .. إن كان هناك من يناقضني الرأي .. فمازالت نكسة 67 تلقي بظلال وخيمة على مصر . وبعد صحوتنا المؤقتة بين عامي 1971 و 1975 م و التي اقتصنا خلالها نصر أكتوبر 1973 م . بعدها عادت مصر إلى سباتها مرة أخرى لتسلم عقالها و زمام أمورها إلى القوى العالمية الثلاث


الولايات المتحدة الأمريكية على الصعيد السياسي و العسكري
الرأسمالية الغربية على الصعيد الإقتصادي
العلمانية على الصعيد الإجتماعي و الديني

كلها كانت خطوات غير محسوبة .. فالانصياع لإرادة أمريكا أوقع مصر في حرج بالغ في أعقاب إتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية .. التي ورغم كوني طالبا في العلوم السياسية في مرحلة البكالوريوس و الآن في المرحلة التمهيدية للماجستير إلا أني لم أطلع على البنود الخفية في تلك الإتفاقية المبهمة الغامضة .. ولكن قدرا من الرشادة في تحليلي مجريات الواقع اليوم يدفعنا إلى التيقن من أن هذه الإتفاقية لم تحقق لمصر بقدر ما حققت لإسرائيل .. ففي حين لا يستطيع مصري الذهاب لإسرائيل وفي حين أن مصر لم تستفد من إسرائيل لا اقتصاديا و لا سياسيا .. و كل مكاسبنا العسكرية كان من الممكن الحصول عليها بالقوة أو باتفاق محدود عسكري فحسب .. أما اسرائيل فلا ريب أن هذه الاتفاقية كانت بمثابة مصباح علاء الدين الذي ما أن حكته أيديهم القذرة إلا و خرج لهم المارد ملبيا كل ما كان لا يعدو قبل هذا مجرد أحلام أضف إلى ذلك ما يتمتع به مواطنيها، الذين يعبرون معبر رفح بسلاسة من يعبر معبر ناتانيا

نكبة أم نكسة أم شيء آخر ذلك الذي نعيش اليوم .. وحدها الأيام تستطيع أن تصم ما نحيا فيه .. فاليوم لم أعد أستطيع أن أفسر شيئا .. فكل الأمور التي تحدث من حولنا لا تخضع لقوانين الطبيعة .. وتشذ عن كل القواعد المتعارف عليها .. الغاز المصري يصدر إلى إسرائيل ب 1.5 دولار رغم أن سعره العالمي 15 دولار .. تعاني مصر بلد نهر النيل من أزمة في القمح و الأرز و القطن .. و العديد و العديد من الأمور التي لا نجد لها تفسيرا .. فما الذي نعيشه اليوم بحق الله


نكبة أم نكسة .. أم شيء آخر



إني لا أشفق علينا .. فقد عشنا ما يكفي وسط النيران .. في زنزانة عفنة مظلمة معتمة .. و لكن أشفق على من سيولد في هذه الزنزانة ..

دون ماضي و لا مستقبل

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...