الاثنين، 4 أبريل 2011

جولة في رأس طاغية


رغم روعة زرقة البحر أمام ناظريه، ولون السماء الساحر في هذا الجو الربيعي الخلاب..لم تستطع قسمات وجهه أن تخفي ما يعتصر قلبه من شعور بالحسرة الممتزجة بالمرارة.. شعور بالأسى المعجون بعدم الرغبة في التصديق.. هكذا كان حال الرئيس المخلوع كما اعتادت الأقلام أن تنعته بعد ليلة الحادي عشر من فبراير.. يمضي طيلة نهاره أمام الشاطئ صامتاً غارقاً في تأملاته وما أن يغمض عينيه ليلاً حتى تبتلعه دوامات من الكوابيس لتقذفه كل صباح على ذات الشاطئ فزعاً


مازال دوي هتافات الجماهير التي أحاطت بقصره المنيف يسكن أذنيه، تلك الهتافات التي لم ينجح أزيز المروحية في أن يخمدها وهي تقله حيث هو الآن.. فبعد أن أدرك الشعب أن جداراً أصماً يفصل الرئيس عن سماع أناتهم وشكواهم قرروا أن يرددوا صيحتهم أسفل نافذته : ارحل.. ذات الصيحة التي انطلقت من ميدان التحرير وحاولت حاشيته أن تقتلها في الحناجر قبل أن تزعج سيادته.. وعندما اضطرت أن توقظه، أصدر أوامره بالإبادة..فلم يكن حينها يعلم أن صورة كوبري قصر النيل التي يبثها وزير إعلامه تخفي جموعاً حاشدة في الميدان.. وأن عشرات المتظاهرين في تقارير وزير داخليته تعني الملايين.. وبهت الذي كفر


منذ خطابه الأخير لم ينطق كلمة واحدة سوى مع سكرتيره الوفي.. لو ربيت كلب ماكانش حيبقى أوفى منك يا زكريا.. هكذا كان يمازحه، فينفجر زكريا ضاحكاً وهو يمضغ التشيكليتس قبل أن يرد.. شلوط سيادتك دفعة للأمام يا ريس.. في آخر مكالمة طمأنه زكريا من فرم كل الأوراق بقصر الرئاسة وطمأنه أكثر من استمرار رجال صفوت في ممارسة اللعب في الظلام لالتهام إنجازات الثورة وإثارة القلاقل في البلاد.. والله وطمر فيك يا صفوت.. كان يعلم كم هو قذر ذلك الصفوت ولكنه مازال يثق في قدرته على فعل ما يشاء وقتما يشاء.. ولكن ما يحير الرئيس المخلوع أنه لم يحس للحظة ورغم كل ما يعيثه رجال صفوت و زكريا من فساد أن غليله قد شفي وأن قلبه قد استراح


كم يعجبه ثبات القذافي حتى الآن وكم حدثته نفسه.. ياريتني صبرت شوية وكان ديتها كام ألف شهيد كمان لعل وعسى.. ولكنه سرعان ما يتذكر رد فعل المشير حال تلقيه الأمر الرئاسي بقصف ميدان التحرير.. كان رفضه قاطعاً قاتلاً لأي أمل في نفس الرئيس من توجيه فوهات الدبابات نحو صدور المعتصمين.. عندها أحس بمرارة الخيانة وإحساس أشد عنفاً بالسخط على السيدة الأولى التي أدرك الآن كم أخطأ يوم سلم لها الدفة منذ أعوام.. لقد نبشت في داخله حتى غرست حلم التوريث.. واستجاب هو بعد أن توقفت من حينها الكوابيس عن مهاجمته كل مساء.. وأخطر هذه الكوابيس كابوس القصاص.. فوق قاعدة تمثال يجثم مكتوف اليدين وعينيه زائغتين من فرط الجموع من حوله، ولكن رحمة الله كانت توقظه قبل أن يرتطم به أول حذاء


كان صعباً على طاغية مثله أن يستوعب شعار "الإرادة الشعبية".. فالطغاة مجبولون على احتقار الشعوب.. خاصة إذا جاءوا محمولون على فوهات المدافع لا على أكتاف الجماهير.. إن حالهم يصبح كمن توقف تماماً عن قراءة الصحف ومشاهدة التلفاز ثم قرأ تقريراً عما يحدث، ليكون هذا التقرير عينه وأذنيه.. هكذا هم الطغاة.. وما بالك إذا كان معد التقرير أكثر حرصاً على عدم إغضاب الرئيس.. لا تزعجوه.. قولوله كل حاجة تمام.. هو حيشيل هم إيه ولا إيه.. وتتكرر الجملة الأخيرة حتى يصل الطاغية لدرجة لا يتحمل فيها أي هم.. كم يعجبه القذافي.. فرغم أن كليهما يحتقر الشعب إلا أنه كان مضطراً - حتى في خطابه الأخير - إلى مخاطبة شعبه "بالإخوة المواطنون" إلا أن القذافي باح بكل شيء منذ الخطاب الأول لينعت شعبه بالجراثيم والجرذان


أحس بالألم و الحزن والقهر والخيانة والذل والفراق والغضب والكره والحقد.. إلا الندم.. إحساس وحيد لم يستشعره أبداً ولم يعتصره رغم كل ذنوبه، فقد كان في نهاية الأمر قائداً عسكرياً.. والعسكري شديد الحرص على لمعان حذائه وتهذيب بزته وتصفيف شعره وبريق النسور فوق كتفيه.. شديد الحساسية لمظهره وصورته ومجده.. كان بإمكانه الرحيل بصورة أفضل منذ اندلاع الثورة.. فلم يكن من الصعب عليه لعب دور الرئيس الذي قرر أن يستريح.. بس أنا انخدعت.. هكذا أقنع نفسه وحاول إقناع من حوله.. وهكذا اقتنع بعض ضعاف النفوس أو من كانوا يدورون في فلكه.. فمازلت أؤمن أن الصاغية تصنعه حاشيته أكثر مما يصنع هو نفسه.. هي من ترفعه إلى مرتبة الآلهة وهي أيضاً من تسقطه فجأة من فوق سبع سماوات على أم رأسه.. فكيف بحاشية تجمع القواد والطبال والأستاذ الجامعي الفاشل والمحامي الفاسد والضابط المرتشي والسياسي المزور


بعد حياة حافلة قضى منها ثلاثة عقود فوق عرش البلاد.. لم يعد يملك سوى تأملاته ومحاولات فاشلة لكتابة مذكراته.. لقد سأم زوجه ونجليه وحتى حفيده.. سأم أمراض الشيخوخة وهذا الورم الخبيث الذي اخترق جسده المسن، رغم طعامه وشرابه الفرنسي وبذله الإيطالية وطبيبه الألماني ودوائر الحراسة المحيطة به، سأم ماضيه وحاضره وتمنى لو كان ما حدث مجرد كابوس حتى وإن كان كابوساً مقيتاً شديد البغض، ولكنه ورغم سخطه من الحياة لم يتمنى الموت.. فآخر ما يتمناه الطغاة الموت.. فهم شديدي الهلع من لحظة الحساب، لحظة يقفون بين يدي ربهم فيعجزون عن النطق.. فهل من مدكر

هناك 9 تعليقات:

  1. رائع فعلا هذا المقال
    تحياتي

    ردحذف
  2. رائع فعلا هذا المقال
    تحياتي

    ردحذف
  3. AHMED SAMIR
    *************
    خالص تحياتي ياأستاذ أحمد
    أسعدتني زيارت وقراءتك ونعليقك
    خالص تحياتي
    أحمد

    ردحذف
  4. جميل كل ما يخطه قلمك
    بجد بستمتع جدا بكتباتك
    يسلم قلبك يا حماده

    ردحذف
  5. ساسو
    *****
    دا شرف ليا إن كتابتي تحوذ على إعجابك
    منورة المدونة كلها..
    خالص تحياتي
    أحمد

    ردحذف
  6. ماشاء الله
    حلو اوى كلامك
    وفى الصميم
    دمت متالقاً


    تحياتى

    ردحذف
  7. أحييك على هذا الموضوع

    ردحذف
  8. momken
    ********
    خالص تحياتي
    ميرسي جداً ياممكن على المجاملة الرقيقة
    اسعدتني زيارتك

    ردحذف
  9. موناليزا
    *********
    وأنا أحييكي على تعلقيك الرقيق
    خالص تحياتي
    أحمد

    ردحذف

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...